المادة    
وفي الجانب الآخر ظهر لأول مرة أن الناس توسعوا في التنعم، وفتنة هذه الأمة في المال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذه الأمة أمة مرحومة، فتنتها المال، وعذابها الفرقة )، وقال: ( والله ما الفقر أخشى عليكم )، فهو صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، يشفق عليهم مما يضرهم فطمنهم: ( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا )، وهذا الذي وقع.
فكان مما حدث وظهر من البدع -والمقصود بالبدع هنا: الأمر المحدث الذي لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله-: أن الناس توسعوا في التنعم، فأدى ذلك إلى ظهور شيء من الترف، والتقاعس، والبعد عن الجهاد، وولد في هذا النعيم ناشئة نشأت في أحضان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم يعانوا مرارة الجاهلية، ولم يعرفوا الجاهلية، ولم يعرفوا نعمة الإيمان كما ينبغي، ونشئوا في أحضان العلم، والنور، والخير، والنعمة، والترف، فابتدأ في الحجاز -وهذا شيء عجيب أن يبتدئ في الحجاز : في مكة و المدينة - مع هذا الترف ظهور نوع من الغزل، والغناء وما أشبه ذلك، حتى إن هؤلاء الشعراء كانوا منتشرين في الحجاز ، مع أن المفروض ألا يوجد هناك منهم أحد، حتى كثروا في المدينة ، وكان منهم عمرو بن أبي ربيعة وأمثاله، فكثروا هناك بسبب الترف والمال والنعمة والشبع.
وقد كانت المدينة حاضرة الأمة، وكان فيها كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقدمت إليها أنواع من المطاعم، والمشارب، والملابس، والزينة، والحلي مما لم يكن معروفاً من قبل، فولد هؤلاء في هذه النعمة، وقل عندهم وازع الإيمان، كما هو حال هؤلاء الشعراء وأمثالهم، فصاروا يتغزلون، ويتغنون، وينشدون، ثم بدأ ذلك يدب في بعض الناس، وكان كثيراً منهم من الموالي، أو من العبيد، ومال بعض الناس إلى سماع أصواتهم، فبدأت هذه الظاهرة تنتشر وهي غريبة، فلم يكن لدى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مع الجهاد، ومع العبادة، ومع المجالدة ما يمكن أن يجعلهم يتوسعون في المباح -وهو مباح- فضلاً عن أن يكون لديهم ما يشغلهم من المحرم.
فانتقل هؤلاء من المنطقة الوسط -وهي التوسع في المباح- إلى الوقوع في المحرم، فانطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( كالراعي يرعى حول الحمى؛ يوشك أن يرتع فيه )، وهذا الأمر معروف في التاريخ، وإن كنا لا نصدق كل ما يقال، ولا نأخذ هذا من كتاب الأغاني ، ولا نحتج بمثله، لكنه وجد، حتى إن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، ومن قبله سليمان وغيرهم وضعوا حلولاً لهؤلاء المغنين وأمثالهم، فهذا الأمر كان موجوداً وثابتاً.
  1. ظهور الغناء في صدر الإسلام

    فهذه الظاهرة كان أول ظهورها في أن الرجل يشتري أمة فيعجبه صوتها، وهذه ملك يمينه، وله أن يتلذذ بسماع صوتها إن كان صوتها جميلاً، فهي ملكه على أية حال، وكذلك الزوجة التي لها صوت جميل فللزوج أن يسمع صوتها ولا حرج إذا كان مجرداً عن الآلة، فبدءوا يتوسعون في أن يحترف بعض هؤلاء الإماء في الغناء، ثم تباع وتشترى للغناء لا لأنها أمة، وهنا بدأت المشكلة، ثم تطورت الأمور وأصبحت لها قواعد وقوانين، فإذا قرأت في الأغاني مثلاً فإنك تجده يذكر تلك المصطلحات والقوانين، وأصبح للغناء سلالم معينة، ومبادئ وقوانين معينة، وآلات.. وهكذا، ومن هنا قاوم العلماء ذلك، فمثلاً سئل الإمام أحمد رحمه الله -وهذا يدل على فقهه رضي الله تعالى عنه- عن رجل مات وله أيتام، وكان مما خلف: أمة ملك يمين مغنية، وبعض العلماء يفتي هنا: بأن يراعي الأصلح للفقراء، فتباع على أنها مغنية، فيكون لها سعر كبير؛ لأن الأيتام يحتاجون المال، والبعض يقول: لا، ما دام أن هذا الاحتراف حرام فإنها لا تباع بشيء مطلقاً، أي: يتركونها ولا يرثونها، وكأنهم ورثوا خمراً، أو خنزيراً، فإنه لا يورث.
    وأما الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه فقال: تباع على أنها ساذجة. أي: تباع على أنها مجرد أمة، وعندما تكون مجرد أمة فإنها تكون بعشرة دنانير أو مائة دينار، أما إذا كانت مغنية فإن القيمة تكون مضاعفة كما قلنا.
  2. ظهور التغزل بالنساء من قبل الشعراء

    فالمقصود: أن هذا وقع في هذه الأمة، وابتدأ النساء يلبسن ما لم يكن يلبس من قبل، وابتدأ الترف والغزل يدخل عليهم؛ حتى إن بعض هؤلاء يتورع أن يتغزل بالنساء وهن ذاهبات إلى المسجد، أو وهن يطفن بالبيت أو ما أشبه ذلك، فلما جاءت حادثة عبد الله بن الزبير وأمثاله، وما حدث في الحرة في المدينة وغيره؛ عادت الناس نوعاً ما، فالعقوبات ترجع الناس إلى رشدهم ولو شيئاً ما.
    فالمقصود: أن فتنة الدنيا كانت من أعظم الأبواب التي فتحت، نسأل الله العفو والعافية، فبقدر ما فتح من الكنوز؛ فتح معها من الفتن، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم : ( والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم ).